فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

سورة الفلق مختلف فيها، وآيها خمس آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ الفَلَقِ}
ما يفلق عنه أي يفرق كالفرق فعل بمعنى مفعول، وهو يعم جميع الممكنات، فإنه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإِيجاد عنها، سيما ما يخرج من أصل كالعيون والأمطار والنبات والأولاد، ويختص عرفًا بالصبح ولذلك فسر به. وتخصيصه لما فيه من تغير الحال وتبدل وحشة الليل بسرور النور ومحاكاة فاتحة يوم القيامة، والإِشعار بأن من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه، ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى لأن الإِعاذة من المضار قريبة.
{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} خص عالم الخلق بالإستعاذة عنه لانحصار الشرفية، فإن عالم الأمر خير كله، وشره اختياري لازم ومتعد كالكفر والظلم، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم.
{وَمِن شَرّ غَاسِقٍ} ليل عظيم ظلامه من قوله: {إلى غسق الليل} وأصله الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعًا. وقيل السيلان و{غَسَقِ اليل} انصباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه.
{إِذَا وَقَبَ} دخل ظلامه في كل شيء، وتخصيصه لأن المضار فيه تكثر ويعسر الدفع، ولذلك قيل الليل أخفى للويل. وقيل المراد به القمر فإنه يكسف فيغسق ووقوبه دخوله في الكسوف.
{وَمِن شَرّ النفاثات في العقد}
ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها، والنفث النفخ مع ريق وتخصيصه. «لما روي أن يهوديًا سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت المعوذتان» وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر فأرسل عليًا رضي الله تعالى عنه فجاء به فقرأهما عليه، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وإفرادها بالتعريف لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد.
{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتمامه بسروره، وتخصيصه لأنه العمدة في إضرار الإِنسان بل الحيوان غيره، ويجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور وما يضاهيه كالقوى وب {النفاثات} النباتات، فإن قواها النباتية من حيث أنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كانت تنفث في العقد الثلاثة، وبالحاسد الحيوان فإنه إنما يقصد غيره غالبًا طمعًا فيما عنده، ولعل إفرادها من عالم الخلق لأنها الأسباب القريبة للمضرة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت على سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوذتين». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
والفلق: الصبح، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وفي المثل: هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح، وقال الشاعر:
يا ليلة لم أنمها بت مرتقبًا ** أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق

وقال الشاعر يصف الثور الوحشي:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ** هاديه في أخريات الليل منتصب

وقيل: الفلق: كلما يفلقه الله تعالى، كالأرض والنبات والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وجماعة من الصحابة والتابعين: الفلق: جب في جهنم، ورواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لما اطمأن من الأرض الفلق، وجمعه فلقان.
وقيل: واد في جهنم.
وقال بعض الصحابة: بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره.
وقرأ الجمهور: {من شر ما خلق}، بإضافة شر إلى ما، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد، كالإحراق بالنار، والإغراق بالبحر، والقتل بالسم.
وقرأ عمرو بن فايد: من شر بالتنوين.
وقال ابن عطية: وقرأ عمرو بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر: من شر بالتنوين، ما خلق على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، ولهذه القراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون {ما خلق} بدلًا من {شر} على تقدير محذوف، أي من شرّ شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولًا ثم عمّ ثانيًا.
والغاسق: الليل، ووقب: أظلم ودخل على الناس، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال: والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه.
من قوله تعالى: {إلى غسق الليل} ومنه: غسقت العين: امتلأت دمعًا، وغسقت الجراحة: امتلأت دمًا، ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء، انتهى.
وقال الزجاج: هو الليل لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد، استعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك.
قال الشاعر:
يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقًا ** إذ جئتنا طارقًا والليل قد غسقا

وقال محمد بن كعب: النهار دخل في الليل.
وقال ابن شهاب: المراد بالغاسق: الشمس إذا غربت.
وقال القتبي وغيره: هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف.
وفي الحديث: «نظر صلى الله عليه وسلم إلى القمر فقال: يا عائشة، نعوذ بالله من هذا، فإنه الفاسق إذا وقب» وعنه صلى الله عليه وسلم: «الغاسق النجم» وقال ابن زيد عن العرب: الغاسق: الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك.
وقيل: الحية إذا لدغت، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه.
والنفاثات: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر، يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها ويرقين.
وقرأ الجمهور: {النفاثات}؛ والحسن: بضم النون، وابن عمر والحسن أيضًا وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات؛ والحسن أيضًا وأبو الربيع: النفثات بغير ألف، نحو الخدرات.
والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك.
وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله: ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله: {إن كيدكن عظيم} تشبيهًا لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم، وعرضهنّ محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك، انتهى.
وقال ابن عطية: وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب.
وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطًا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع، انتهى.
وقيل: الغاسق والحاسد بالطرف، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوبًا إليه، وكذا كل ما فسر به الغاسق.
وكذلك الحاسد، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه.
أما إذا لم يظهر الحسد، فإنما يتأذى به هو لا المحسود، لاغتمامه بنعمة غيره.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره، انتهى.
وعم أولًا فقال: {من شر ما خلق}، ثم خص هذه لخفاء شرها، إذ يجيء من حيث لا يعلم، وقالوا: شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر.
ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات، ومنه: لا حسد إلا في اثنتين، ومنه قول أبي تمام:
وما حاسد في المكرمات بحاسد

وقال آخر:
إن الغلا حسن في مثلها الحسد

وقول المنظور إليه للحاسد، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة، لأنها خمس آيات، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
التفسير:
لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيهًا له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أشرف الطاعات، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن. يروى أن جبرائيل أتاه وقال: إن عفريتًا من الجن يكيدك فقل إذا أتيت على فراشك: أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس.
وعن سعيد بن المسيب أن قريشًا قالوا نتجوع فنعين محمدًا ففعلوا ثم أتوه وقالوا: ما أشدّ عضدك وأقوى ظهرك وأنضر وجهك! فأنزل الله المعوّذتين.
وقال جمهور المفسرين: إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر ودسه في بئر ذي أروان، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وأخبره جبرائيل بموضع السحر فأرسل عليًا بطلبه وجاء به وقال جبرائيل: اقرأ السورتين. فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة فيجد بعض الراحة والخفة، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال. طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء. وأيضًا لو صححت لصح قولهم: {إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} [الإسراء: 47] والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز لاسيما وقد تداركه الله تعالى بفضله وخصوصًا إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ويؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بسم الله أرقيك من كل يؤذيك والله يشفيك» وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بقوله «أعيذكما بكلمات الله التامّه من كل شيطان وهامّه ومن كل عين لامّه» ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحق.
وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الحمى والأوجاع كلها «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم ومن شر كل عرق نعار ومن شر حرّ النار» وعن علي رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال: «أذهب البأس رب الناس أشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت» وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلًا يقول «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرّك ومن شرّ ما فيك وشرّ ما يخرج منك ومن شرّ ما يدب عليك، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شرّ ساكن البلد ووالد ما ولد»
وعن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئًا من جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوّذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي. «وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه بـ: {قل هو الله أحد} وبهاتين السورتين. ثم قال: تعوّذ بهن فما تعوّذت بخير منها» وأما قول الكفار إنه مسحور فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ودام مع فلذلك وقع الإنكار عليهم. ومن الناس من لم يرحض في الرقى لرواية جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقة وقال: «إن لله عبادًا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها. واختلف في التعليق؛ فروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من علق شيئًا وكل إليه» وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها فجذبها جذبًا عنيفًا فقطعها. ومنهم من حوزه؛ سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه. واختلفوا في النفث أيضًا فروي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوّذات ثم مسح جسده. ومنهم من أنكر النفث؛ عن عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد.
وعن إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقى.
وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت: ألا أعوّذك يا أبا محمد؟ قال: بلى ولكن لا تنفث فعوّذته بالمعوّذتين.
قال بعض العلماء: لعلهم كرهوا النفث لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهيًا عنه.
وقال بعضهم: النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحرًا مضرًا بالأرواح والأبدان، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حرامًا.
سؤال: كيف قال في افتتاح القراءة {فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] وقال هاهنا {أعوذ برب} دون أن يقول (بالله)؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم، وأيضًا الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس وأيضًا كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة.
وفي الفلق وجوه؛ فالأكثرون على أنه الصبح من قوله: {فالق الإصباح} [الأنعام: 96] وخص هاهنا بالذكر لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار {إن قرآن الفجر كان مشهودًا} وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح.
روي أن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعًا شديدًا فبات ليلته ساهرًا، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه السلام يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال: يا جبرائيل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا جبرائيل فأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضرّ، فلما حصل له الراحة قال: يا جبرائيل أنا أدعو وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل. وروي أن دعاءه في الجبّ: يا عدّتي عند شدتي، ويا مؤنسي في وحشتي، ويا راحم غربتي، ويا كاشف كربتي، ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، راحم صغر سني، وضعف ركني، وقلة حيلتي، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. وقل: هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات {إن الله فالق الحب والنوى} [ألأنعام: 95] والجبال عن العيون {وإن منها لما يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والقبض عن البسط، والشدّة عن الفرج، والقلوب عن المعارف.
وقيل: هو واد في جهنم اذا فتح صاح جميع من في جهنم من شدّة حره كأن العبد قال: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأسبق وأقدم من عذابك. وصاحب هذا القول زعم أن المراد من شر ما خلق أي من شدائد ما خلق فيها.
وعن ابن عباس: يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقًا هو شرّ منه. ويدخل فيه الاستعاذة من السحرة لأنهم أعوانه وجنوده. وقل: أراد أصناف الحيوانات المؤذية من الهوام والسباع.
وقيل: الأسقام والآفات والمحن فإنها شرور إضافية وإن جاز أن تكون خيرات باعتبارات أخر والكل بقدر كما مر في مقدمة الكتاب في تفسير الاستعاذة. وذكر في الغاسق وجوه؛ فعن الفراء وأبي عبيدة: هو الليل إذا جنّ ظلامه ومنه غسقت العين أو الجراحة إذا امتلأت دمعًا أو دمًا.
وقال الزجاج: هو البارد وسمي الليل غاسقًا لأنه أبرد من النهار، فعلى هذا لعله أريد به الزمهرير.
وقال قوم: هو السائل من قولهم غسقت العين تغسق غسقًا إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقًا لانصباب ظلامه على الأرض.
قلت: ولعل الاستعاذة على هذا التفسير إنما تكون من الغساق في قوله تعالى: {إلا حميمًا وغساقًا}
[النبأ: 25] والوقوب الدخول في الشيء بحيث يغيب عن العين. هذا من حيث اللغة. ثم أن الغاسق إذا فسر بالليل فوقوبه دخوله وهو ظاهر. ووجه التعوذ من شره أن السباع فيه تخرج من آجامها والهوام من مكامنها، وأهل الشر والفتنة من أماكنها، ويقل فيه الغوث ولهذا قالت الفهقاء: لو شهر أحد سلاحًا على إنسان ليلًا فقتله المشهور عليه لم يلزمه قصاص ولو كان نهارًا لزمه لوجود الغوث. وقد يقال: إنه تنشر في الليل الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين، وذلك لأن قوة الشمس وشعاعها كأنها تقهرهم، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء.
وعن ابن عباس: هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت داعية العقل.
قال ابن قتيبة: الغاسق القمر لأنه يذهب ضوءه عند الخسوف، ووقوبه دخوله في ذلك الاسوداد. «وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها وقال لها: استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب»، وعلى هذا التفسير يمكن تصحيح قول الحكيم إن القمر جرم كثيف مظلم في ذاته لكنه يقبل الضوء عن الشمس ويختلف حاله في ذلك بحسب قربه منها وبعده عنها. ووقوبه إما دخوله في دائرة الظلام في الخسوفات، وإما دخوله تحت شعاع الشمس في آخر كل شهر، وحينئذ يكون منحوسًا قليل القوة ولذلك تختار السحرة ذلك الوقت للتمريض والإضرار والتفريق ونحوها.
وقيل: الغاسق الثريا إذا سقط في المغرب.
قال ابن زيد: وكانت الأسقام تكثر حينئذ.
وقال في الكشاف: يجوز أن يراد به الأسود من الحيات ووقبه خربه ونقبه.
وقيل: هو الشمس إذا غابت وسميت غاسقًا لسيلانها ودوام حركتها. وأما النفث فهو النفخ بريق.
وقيل: النفخ فقط. والعقد جمع عقدة. والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطًا ولا يزال يعقد عليه عقدًا بعد عقد وينفث في تلك العقد. ووجه التأنيث إما الجماعة لأن اجتماع السحرة على عمل وأحد أبلغ تأثيرًا، وإما لأن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك أن الأصل الكلي في ذلك الفن هو ربط القلب وتعليق الوهم بذلك الأمر وأنه في النساء أوفر لقلة علمهن وشدّة شهوتهن.
وقال أبو عبيدة: إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو مسلم: العقد عزائم الرجال والنفث حلها لأن من يريد حل عقدة الحبل ينفث عليه بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلًا. والمعنى: إن النساء لكثرة حيلهن يتصرفن في عزائم الرجال يحوّلنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوّذ من شرهن، وهذا القول مناسب لما جاء في مواضع أخر من القرآن {إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم} [التغابن: 14]، {إن كيدكن عظيم} [يوسف: 28] والاستعاذة منهن الاستعاذة من إثم عملهن، أو من فتنتهن الناس بسحرهن، أو من إطعامهن الأطعمة الردية المورثة للجنون، والموت. والحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه حتى لو تمكن من ذلك بالحيل لفعل فلذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه. وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوقى ويتحرّز منه دينًا ودنيا فلذلك لما نزلت فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لكونها مع أختها جامعة في التعوذ من كل شيء بل قوله: {من شر ما خلق} عام والبواقي تخصيص بعد تعميم تنبيهًا على أنها أعظم الشرور، وأهم شيء يستعاذ منه. وعرفت النفاثات لأن كل نفاثة شريرة. ونكر {غاسق} و{حاسد} لأنه ليس كل غاسق بشره بل الليل للغاسقين شر وليس كل حسد مذمومًا بل منه ما هو خير كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار ورجل أعطاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» وفائدة الظرف هو قوله: {إذا حسد} أنه لا يستعاذ من الحاسد من جهات أخرى ولكن من هذه الجهة، ولو جعل الحاسد بمعنى الغابط أو بمعنى أعم وقوله: {حسد} بالمعنى المذموم كان له وجه. اهـ.